في حوار «صريح» مع الباحث البحريني كريم المحروس
تحوّلات الأمة المسلمة.. وهجائن الإصلاحيين الجُدد
19/05/2006 الوقت - نادر المتروك
يلجُ الباحث البحريني المقيم في لندن، كريم المحروس، من مدخل النقد الجذري ليناقش مقولات الإصلاح في البحرين. فهو يختلف مع التكوينات المرجعية الغالبة في البلاد، ويموضعها في إطار التهافت الفكري والثقافي واضطراب المنزع المرجعي. لكن في الوقت الذي يختلف المحروس مع أصول البناء العقائدي لهذه التكوينات، فإنه يوصّفها بتدني الكفاءة ما جعلها تدخل في إخفاق تلو الإخفاق.
في هذا الحوار؛ يُقدِّم المحروس -الذي يعدّ دراسات عليا حول الإصلاح الديني- وجهات نظر تنبع قيمتها من بُعدها الاختلافي المرصوص بالدعامة البحثية، و''إشراقات'' تذهب إلى أن جدالاً في البحث الاختلافي هو رهان أساسي للتجديد والإصلاح.
*من منظوركم الإسلامي؛ كيف تقاربون ما يُعرف بانحطاط الحضارة الإسلاميّة مع لحاظ الخلفية التأمينيّة التي يوفّرها ارتباط مكوّنات هذه الحضارة بالسماء والمعجزة القرآنية؟
** في مثل هذه الأحوال يُتصوَّر الجعل الذي أسميته ''الإمداد الغبي '' رهن هذا التساؤل: هل أن حضارة الأمة هي الدين نفسه أم أنها إحدى نتائج حركة النص الديني بين معتنقيه من أبناء هذه الأمة؟ وهل أن الآية الكريمة » وَكَذَلِك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاس وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ *حِيم« شاملة أيضا لـمفهوم (الدين الوسط) كما شملت (الأمة الوسط) فتكون الأمة الوسط وحضارتها نتاجا متأخرا على أصل الوسطية الدينية ومفهوما مطابقا للدين الأصل وقيمه وصفاته. انقلاب الأمة على النبي نستوحي أن القرآن الكريم عرض مواصفات الأمة القادرة على صناعة الحضارة، واتْبعَ هذه المواصفات بأهم عامل من عوامل الانحطاط لازلنا ندفع ثمنه باهظا إلى يومنا هذا. فإلى جانب (الوسطية) في الدين والأمة هناك ذكر صريح لمشروع انقلاب أمة على نبيها. فقد تتميّز الأمة بوسطيتها فتُشكّل حضارة كبرى وتكون شاهدة على الناس لكنها لن تستطيع أن تفرّ من الجعل الإلهي في كون النبي (ص) الشّاهد عليها وإنْ سادت بحضارتها وطغت. فإذا ما انقلبت هذه الأمة الوسطية على الأعقاب فإن مسيرتها الحضارية قد تعلو على علو بقية الحضارات الإنسانية ولكنها - بلا ريب - ستنحط وستقع فريسة الجهل والتقهقر، والسبب يكمن في عامل الانقلاب الأول الذي ذكره القرآن الكريم.
ماذا نعني بالحضارة الإسلامية في هذا المقام؟ هل هي التقدم والإبداع في علومها الإنسانية إلى جانب منظومة قيمها الأخلاقية فحسب؟ إذا ما كان الأمر كذلك، فما الفرق الجلي بين عموم الحضارات البشرية، المصرية والصينية والهندية والفارسية والرومانية، وبين الحضارة الإسلامية؟ وهل كانت هذه الحضارات خلوا من العقائد والقيم التي كانت تشكل دورا أساسا في نمو علومها الإنسانية؟ لقد كان لبعض هذه الحضارات عظمة وعطاء وإبداعا يفوق الحضارة الإسلامية - مع حفظ الفرق الزمني وظروف الولادة والنمو - برغم قولنا بوسطية هذا الدين وعظمته وبكونه خاتم الأديان. وهناك حضارات لا قيم أخلاقية لها برغم تميّزها وإبداعها ثقافيا وعلميا أيضا. إنّ انتقال العلوم بمختلف ألوانها من إقليم إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، هو حال إنسانية قبل أن تكون مرهونة بسيادة شريعة أو قيمة معينة منضبطة المعايير أو غير منضبطة. فالعلوم لا وطن لها. فيوم كان العرب على جهل؛ كانت دول البحر المتوسط وشماله تسقى مما تبقى من رحيق تقدمها العلمي والحضاري، ويوم كانت أوروبا تعاني من وطأة تخلف القرون الوسطى؛ كان المسلمون في أوج تقدمهم الحضاري. مشكلتنا الرئيسة تكمن في حضارتنا التي نشأت على قواعد ثقافية هجينة وليست صافية نقية، وفيها من الحشو ما باعَدَ بين الدين والحياة اليومية للأمة. وقد جمعت هذه الثقافة بين مفاهيم جاهلية وإسلامية ورومانية وفارسية، فورثنا عن الجاهلية عصبيتها وأبدعنا فيها حتى تبلورت عندنا فكرة الانقلاب السياسي على الأعقاب كأقصى عطاء فكري، فعمّمناها وحكّمناها على نظام الحكم ونظمنا الاجتماعية والثقافية كافة إلى الحد الذي فيه أصبحت نظمنا هذه قائمة على أسس قانون طوارئ غير مكتوب ودائم الفعالية، ثم غلّفنا هذه النظم بمراسيم ومفاهيم وقيم إسلامية. وأخذنا عن الفرس صوفيتهم وغنوصيتهم، وعن الرومان فلسفتهم، وألحقناها بهذه المراسيم والمفاهيم والقيم. وإلى جانب كلّ ذلك أخذنا عن مختلف الحضارات علومهم عبر الترجمة وألحقناها بطائفة خاصة وجعلنا من النص الديني خاصة لعامة الناس.
التجديد وتعقيدات المجتمع
* يندلع اليوم حوار ساخن، وأحياناً بصحبة تعقيدات اجتماعيّة حادة، بين مجموعات التجديد والإصلاح الطالعة والكيانات المرجعيّة المصنّفة باعتبارها محافِظة وتقليدية. انطلاقاً من تجربتكم الخاصة، ما هي الاقتراحات التي تقدّمونها لتأمين العلاقات الاجتماعية من آثار الخلاف الفكري في هذا الشأن وغيره؟
** أصبحنا فوعينا عالما يصعب فيه تمييز المصطلحات أو ضبط المعاني في أوعية ألفاظها! فمن هم المجدّدون اليوم؟ هل هم الداعون إلى فلسفة جديدة للدين ومتونه وعلاقاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؟! أم هم المغلّبون للعلمية والعقلية والإنسانية والطبيعية على نصوص مصادر التشريع وخلفياتها التاريخية؟! وكيف نميّز بين المحافظين والتقليديين في سياق معايير ثابتة؟ فهناك من المصلحين المجددين منْ يدعو إلى رجعة جادة لمناهج تقليدية محافظة يرى فيها سلامة الدين والدنيا، وهناك من المجدّدين (الحداثيين) من يدعونا إلى اتباع منهج الشك عند مراجعة الأصول الدينية والتراث العلمي الديني والحوادث التاريخية وإنْ تطلب ذلك نفي ضرورات الدين. وهناك منْ أخضع هذه الضرورات إلى مصالح سياسية تحت مسمى الاجتهاد. وهناك منْ ضعُفت وسيلته فخلط بين التقليدية والمحافظة والتجديد والحداثة ولم يعد يميّز بين الإصلاح المشروع ومشروعية الانقلاب. كل ذلك عقّد من حساسية مبدأ الاجتهاد والإصلاح معا، وأحال عوامل النزاع الفكري إلى أشكال (تصفوية) أو (إقصائية) تمكّن رعاتها من الاختفاء وراءها تحت مسميات أقل وطأة، كالخلاف السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الشخصي.
وهنا، لا يمكن بأي حال من الأحوال تأمين منظومة العلاقات الاجتماعية من آثار هذا النزاع الفكري، لأننا هنا نلمس متناقضات ترجع إلى الأصول العقائدية وليس إلى الاجتهادات الفقهية أو الثقافية أو درجة التعاطي معها ومستوى الوعي فيها فحسب. فكل منها يميل بنفسه إلى ما يعتقد فيه مشروعا إصلاحيا سواء كان رجعيا أو تقدميا (بمعناهما اللغوي). ولا ننسى هنا أن عناصر العلاقات الاجتماعية تشكل عمقا استراتيجيا يقصده مبلّغو الإصلاح الديني لتدعيم قواعدهم وجذور حراكهم، وهي ميدان وهدف لمعركة الإصلاح في الوقت نفسه. فلابد وان يصدر عنها ما يعكر صفو العلاقات الاجتماعية. نحن بحاجة إلى الارتفاع بالمستوى الثقافي الديني المتعلق بالاستقلالية والتبيّن العقلي، والحذر من قبول كل جديد يصدر هنا وهناك على عجالة، وعرضه على مصادر التشريع والثقاة من ذوي الاختصاص، ومعالجته معالجة أولية قبل أن نشرك في نزاع يترك آثاره السلبية على علاقاتنا الاجتماعية. وفيما يتعلق بثقافة حركة الإصلاح فأتصور بأن أية عملية قبول لابد وان يسبقها بحث ثقافي حر في مصير حركات الإصلاح الديني في تاريخنا الإسلامي خاصة، وفي العالم بما فيها حركات الإصلاح الديني في أوروبا إلى منتهاها. فلم نعد اليوم وحدنا من يطرق أبواب حوزاتنا وجامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية والتعليمية والاجتماعية.
الإصلاح الديني في البحرين
*الحديث حول الإصلاح الديني في البحرين يبدو غامضاً وربما في موضع الشك. دعوات التجديد تارة تواجَه من جانب الرموز الدينية بالتخطئة والتشكيك، وتارة يُضعّف أصحابها ويُحاطون بالحصار المعنوي. هل ثمة مصداقية لمقولة الإصلاح الديني في البحرين؟
** سؤالك هذا أحال ذهني إلى واقعة مثيرة حدثت في الهند على عهد نهضة السيد الأفغاني أوجب فيها مثقفو الهند تبني منهج التوفيق بين اتجاه الحداثة والاتجاه الديني الجامد، وآمنوا بعدمية التعارض بين الدين والفكر الوافد من الغرب، وأسّسوا على هذا الطريق منهجا تعليميا محرفا دُرس في جوامعهم وجامعاتهم. وكان السيد الأفغاني من المناهضين لهذا اللون من التوفيق الفكري الخاضع لزعامة السيد احمد خان. وقبيل وفود الأفغاني على الهند كان علماء المؤسسة التعليمية الدينية في الهند قد دخلوا في صراع مرير مع المثقف (الحداثي) الجديد السيد احمد خان من دون أن تكون لهم مهارة وقدرة على غلبته، فهم دون وعي البديل العلمي الحضاري المناسب ولم يسجّل لهم تراث علمي أو ثقافي من قبل غير صور تقليدية جامدة، فصمدوا على تقليديتهم وألّبوا الشارع الهندي المسلم كعادتهم وأصدروا فتاوى حرمت كل خروج على الحال التعليمية والثقافية التقليدية وكل نظم المدارس الحديثة. الأفغاني ونموذج خان وعند وصول الأفغاني إلى الهند للبحث عن العلاج وإطفاء نار الفتنة؛ وجد طرفي الصراع، مثقفو احمد خان وعلماء الدين الهنود، وقد راهنوا في ثقة مطلقة على أن سيدهم الأفغاني سيتوافق بلا ريب مع فكر أحمد خان ويؤيد مواقفه وسيجمع بين الأطراف، لأن كلا الرجلين من مريدي الإصلاح والتجديد، فكانت مراهنتهم هذه تعبيرا عن مدى التباين والاضطراب في المسار الثقافي السائد في الهند. لكن الأفغاني شنّ حربا لا هوادة فيها ضد فكر أحمد خان وأنصاره من خلال الندوات العامة من دون أن يمس أحوالهم الشخصية مطلقا، وعرّفهم بـ ''الدهريين''، وألّف فيهم رسالته ''الرد على الدهريين'' واتهمهم بالإلحاد، لأن أحمد خان أوجب اعتماد ما يخلي سبيل العقل ويطلقه في مداولة الدين وأوجد البديل المنحرف، فتطلب ذلك من الأفغاني شحذ الهمة لإيجاد البديل الإسلامي الحضاري على المستوى الفكري والعملي وتنقية السلوك العام من هول التطرف ونفَس الحجز والعزل والإقصاء، من هنا شكل سفر الأفغاني إلى الهند في ذلك الوقت فرصة ذهبية أشاعت الكثير من الارتياح عند مثقفي الهند وعلمائهم وأنقذتهم من الاضطراب الكبير وأعادتهم إلى النص الديني في إطار وعي وفهم وإدراك حيوي عصري.
أين هذا المثال الرائع من أوضاع بلادنا؟ وهل يمكننا إن نميّز حركة إصلاحية دينية في بلادنا، وما المقصود من وراء هذه الحركة ؟ هل هو الدين أم المؤسسة التعليمية الدينية أم المجتمع الديني وواقعة؟ وهل أن هذه الحركة دينية أم غير ذلك؟
ليس ثمة حركة إصلاحية بمعناها الاصطلاحي في جميع جوانب الوضع الديني السائد في بلادنا. بل هناك خضوع عند مرجعيات فقهية أُخذ ببعض فقهها لا بمنهجها الحديث في الجانب المؤسسي أو الاجتماعي أو التعليمي، وأزعم أن مرجعياتنا لا تمثل شيئا مما جادت به دوائر الإصلاح في قم المقدسة على هيئة المنهج العقلي والوجداني الكشفي أو في النجف الأشرف على هيئة المنهج التكاملي للشيخ محمد رضا المظفر، ولا تمثل صورهما التقليدية المحافظة، على جميع الصعد العلمية والثقافية. وربما كان ذلك رحمة نازلة بنا لا نقمة، ومن حيث لا ندري! وليس هناك انعكاس للإصلاح في الدوائر العلمية والثقافية الخارجية على مسيرة بلادنا العلمية والثقافية والاجتماعية المضطربة، وكل ما ميّزناه بأوهامنا وأدركته عقولنا: أن هناك اقتباسا قشريا لتوكيل مرجعي لا هدف إصلاحي فيه سوى محاولة لتركيب تيار حاشد معين حديث العهد بالسياسة على سكة ثقافية تقليدية لا ميل فيها للتجديد. وربما كان مرجع هذا الميل عن الإصلاح إلى الانشغال بالسياسة ومتطلبات موقف الإطفاء والطوارئ في مقابل منافسات ومناكفات مرشحة للسيادة. ولكني على يقين بحصول تدني في كفاءة مرجعياتنا الدينية بعد أن كانت مرشّحة للعب دور إصلاحي في نظامنا الاجتماعي قبل كل شيء، فهل يمكنك أن تميّز الآن تراثا علميا أو ثقافيا خلفته أو ستخلفه هذه المرجعيات؟ وما هي وسائل الاتصال (غير التسييس!) وكيف نتعرّف على مظاهر النسق الصاعد والنازل في مناولة الخطاب عموما؟ هذه تساؤلات تزيد المتمعن في خلفياتها التاريخية ومجريات واقعها شكوكا عريضة قد توقعه في قيد الاتهام بالتخلف والجهل وعدم الاختصاص والخبرة بلا وجه حق! وربما يشغل بالصغائر المتوثبة للدفاع عن شعار المعية!
نعم، هناك رواح إلى صور سياسية مدعومة بأحوال تقليدية متعلقة بهيبة المرجعية ومكانتها العلمية والثقافية والروحية. وكان هناك فراغ سياسي مرجعي متزامن مع نمو تيار ديني اجتماعي عام مضطرب الهوية، فتنادى البعض من رموز البلاد إلى كسب تمثيل مرجعي يمكّنها من (الاستقواء) و(الإحاطة) بناصية هذا التيار بعد إخفاق كل أشكال الاعتراض السياسي في تحقيق التغيير المنشود منذ السبعينات. وبالتزامن مع مشروع هذا الإعداد المرجعي الجديد اشتعلت البلاد في انتفاضة غير متوقعة دعت إلى تحول دستوري جاد، لكن مرجعيتها لم تجد لعبتها السياسية فاقترفت إخفاقا جديدا أفرغ كلّ تيارها من محتواه المعارض فمال به الشتات من دون وعي إلى الذوبان في منقذ مرجعي تقليدي أبدى امتعاضه لسير مرجعية الانتفاضة وشكّك في منهجها وناكف القائمين عليه وصرّح مرارا باعتداله على هيئة دينية تقليدية قديمة قد ترجع التيار إلى مزيج من صور عهد الشيخ العصفور ومن بعده عهد الشيخين الستري وسليمان المدني رحمهم الله. |