مؤتمرات التقريب تهدف صناعة ديانة جديدة بين السنة والشيعة ولا كفاءة في مرجعياتنا الدينية البحرانية
تفاصيل الحوار الذي اجرته جريدة الوقت البحرانية مع الاستاذ كريم المحروس
أجرى الحوار : نادر المتروك
* يتحدّث الباحثون عن انحطاط تاريخي ألمّ بالحضارة الإسلامية، وكأنها كانت تسلك طريقاً طبيعياً على مستوى نموّ الحضارات وانحدارها على النحو الذي عرفه تاريخ الإنسان، وفي ظلّ هذا التصوير التحليلي يُطابَق بين الحضارة الإسلامية وبقية الحضارات البشريّة، وهو ما يُعاكِس القراءة الدينية وبُعد الإمداد الغيبي الذي تستند عليه. من منظوركم الإسلامي؛ كيف تقاربون ما يُعرف بانحطاط الحضارة الإسلاميّة مع لحاظ الخلفية التأمينيّة التي يوفّرها ارتباط مكوّنات هذه الحضارة بالسماء والمعجزة القرآنية؟
في مثل هذه الأحوال يتصور الجعل الذي أسميته بـ(الإمداد الغيب) رهن هذا التساؤل: هل أن حضارة الأمة هي الدين نفسه أم أنها إحدى نتائج حركة النص الديني بين معتنقيه من أبناء هذه الأمة ؟ . وهل أن الآية الكريمة من سورة البقرة(143): ٍِ[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ] شاملة أيضا لـمفهوم (الدين الوسط) كما شملت (الأمة الوسط) فتكون الأمة الوسط وحضارتها نتاجا متأخرا على أصل الوسطية الدينية ومفهوما مطابقا للدين الأصل وقيمه وصفاته ؟.
هنا نستوحي: أن القرآن الكريم عرض مواصفات الأمة القادرة على صناعة الحضارة ، واتبع هذه المواصفات بأهم عامل من عوامل الانحطاط لازلنا ندفع ثمنه باهظا إلى يومنا هذا. فإلى جانب (الوسطية) في الدين والأمة هناك ذكر صريح لمشروع انقلاب أمة على نبيها.فقد تتميز الأمة بوسطيتها فتشكل حضارة كبرى وتكون شاهدة على الناس لكنها لن تستطيع أن تفر من الجعل الإلهي في كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الشاهد عليها وان سادت بحضارتها وطغت .فإذا ما انقلبت هذه الأمة الوسطية على الأعقاب فإن مسيرتها الحضارية قد تعلو على علو بقية الحضارات الإنسانية ولكنها – بلا ريب- ستنحط وستقع فريسة الجهل والتقهقر ، والسبب يمكن في عامل الانقلاب الأول الذي ذكره القرآن الكريم. فلا ديمومة لحضارة الأمة الوسط بلا نبي شاهد في حياته بحضوره وبعد مماته بحضور نفسه ووصيه. فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) مثال الدين الكامل ، ولا وسطية في الحضارة بلا واسطة الدين ومثاله وان علت وسجلت لها مجدا علميا أو حضاريا.
ماذا نعني بالحضارة الإسلامية في هذا المقام؟!. هل هي التقدم والإبداع في علومها الإنسانية إلى جانب منظومة قيمها الأخلاقية فحسب؟!. إذا ما كان الأمر كذلك، فما الفرق الجلي بين عموم الحضارات البشرية ، المصرية والصينية والهندية والفارسية والرومانية ، وبين الحضارة الإسلامية؟! . وهل كانت هذه الحضارات خلوا من العقائد والقيم التي كانت تشكل دورا أساس في نمو علومها الإنسانية ؟!.
لقد كان لبعض هذه الحضارات عظمة وعطاء وإبداعا يفوق الحضارة الإسلامية – مع حفظ الفرق الزمني وظروف الولادة والنمو - برغم قولنا بوسطية هذا الدين وعظمته وبكونه خاتم الأديان. وهناك حضارات لا قيم أخلاقية لها برغم تميزها وإبداعها ثقافيا وعلميا أيضا.
هناك جدلية واقعة تصل إلى حد القطع : أن انتقال العلوم بمختلف ألوانها من إقليم إلى آخر ، ومن أمة إلى أخرى ، هو حال إنسانية قبل أن تكون مرهونة بسيادة شريعة أو قيمة معينة منضبطة المعايير أو غير منضبطة . فالعلوم لا وطن لها. فيوم كان العرب على جهل ، وكانوا – بحسب وصف الزهراء (عليها السلام) - (على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القد أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم) ؛ كانت دول البحر المتوسط وشماله تسقى مما تبقى من رحيق تقدمها العلمي والحضاري ، ويوم كانت أوروبا تعاني من وطأة تخلف القرون الوسطى ؛ كان المسلمون في أوج تقدمهم الحضاري.
مشكلتنا الرئيسية تكمن في حضارتنا التي نشأت على قواعد ثقافية هجينة وليست صافية نقية ، وفيها من الحشو ما باعد بين الدين والحياة اليومية للأمة . وقد جمعت هذه الثقافة بين مفاهيم جاهلية وإسلامية ورومانية وفارسية ، فورثنا عن الجاهلية عصبيتها وأبدعنا فيها حتي تبلورت عندنا فكرة الانقلاب السياسي على الأعقاب كأقصى عطاء فكري، فعممناها وحكّمناها على نظام الحكم ونظمنا الاجتماعية والثقافية كافة إلى الحد الذي فيه أصبحت نظمنا هذه قائمة على أسس قانون طوارئ غير مكتوب ودائم الفعالية في حال ، ثم غلفنا هذه النظم بمراسيم ومفاهيم وقيم إسلامية . وأخذنا عن الفرس صوفيتهم وغنوصيتهم ، وعن الرومان فلسفتهم ، وألحقناها بهذه المراسيم والمفاهيم والقيم . والى جانب كل ذلك أخذنا عن مختلف الحضارات علومهم عبر الترجمة والحقناها بطائفة خاصة وجعلنا من النص الديني خاصة لعامة الناس.
نعم ، يمكن أن نطلق على الحركة العلمية الإسلامية حتى القرن السابع عشر الميلادي (حضارة) بحسب المعايير الرومانية أو الفارسية ، لكن هذه الحضارة لم تكن متميزة على الرومان والفرس إلا في بعض جوانب الإبداع ، لأننا لم نأخذ بالدين إلى الحد الذي يميز حضارتنا بشكل يتناسب ومتانة قيمه ، ولم نأخذ بالدين إلى الحد الذي يعصمنا ويوفر لنا ما أسميته في سؤالك بـ (الخلفية التأمينة) التي وعدت بها السماء عبر النص القرآني.. وأنا غير متشائم مما تخفيه أحوال المستقبل ، وأرى أن حقيقة الدين الإسلامي لم تكن هي السائدة في ماضينا وحاضرنا، إنما كان رسمه حاكما . فلا بد وان تبعث هذه الحضارة غير التامة من جديد عبر الاتصال بأوروبا مثلما بعثت حضارة روما في أوروبا بعد اتصالها بمواني ايطاليا القريبة من شواطئ الإشعاع الحضاري الإسلامي ، ولكني أتساءل : هل هذا البعث الجديد سيكون مصداقا للآية الشريفة من سورة الفتح 28 [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا] ومصداقا للمثال ذي (الخلفية المؤَمَّنة)؟!.
* يُصوَّر مجتمع النبي (ص) –في القابلية الإسلامية- باعتباره النموذج الذي ترجع إليه المدارس الإسلاميّة المختلفة في بنائها لمكوّنها الفكري ونظامها المعرفي الخاص، وبرغم ذلك لا يغيب عن أحد حجم الاختلاف والتهافت البيّن الذي يجمع هذه المدارس. كيف يمكن تقديم النموذج النبوي على نحو إجماعيٍّ وتقاربيّ للمسلمين جميعاً، بمختلف مدارسهم وانتماءاتهم المذهبية؟
لم يكن مجتمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مجتمعا مثاليا ومصداقا معبرا عن الحقيقة التشريعية بشكلها المطلق. ولو رجعنا لمصاديق الآيات المتعلقة لوجدنا مجتمعا خليطا غير منزه ، يضم بين جنبه ألوانا شتى من الأفراد ، فيهم المنافق ، والمشرك، والفاجر ، والزنديق ، والملحد ، والوثني ، والمنكر لأصول الدين أو بعضها ، والمنكر للنبوة أو رسالتها ، والمنكر ليوم الدين ، والجاحد بضرورات الدين أيضا. فبعض هذه الألوان لوحدها أو مجتمعة مع غيرها تشكل كفرا مستترا. وقد اجتمعت هذه الألوان وانتظمت في مجتمع المسلمين لأسباب خاصة ، بعضها يعود إلى التعلق بالفرص وتغير الأحوال! ، ولا يخفى على أحد أن أغلبها قائم على الثأر للإرث التاريخي في الزعامة ، ويؤكد كل ذلك خروج مفاهيمها إلى الواقع الخارجي المتمثل في صورة الانقلابي على الأعقاب ، ثم تلونت أشكال النظم والعلاقات بعد ذلك واضطربت حتى مجيء معاوية وابنه يزيد في نمطية رومانية مقتبسة من أقرب دول شمال البحر المتوسط.
إن قواعد مجتمع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تأسست في فئة قليلة جدا حملت معها الصورة الإسلامية المثالية التي أُطلق عليها صفة الإيمان ، ألفت علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وفيها سلمان المحمدي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وغيرهم . ولكن هذه الفئة وأئمة الهدى(عليهم السلام) من بعدها دُفّعت الثمن باهظا في صور قمعية وإرهابية لا تصدق. وبعد أن هدمت تلك القواعد والأسس وخلت الأمة من هادي ظاهر حتى عام (255هـ)؛ نمت وتعددت الفرق الإسلامية على صور دينية مشوهة كونت ما عرف بمجتمع المسلمين ، فكان معينه مكون فكري ومعرفي موروث عن مراكز قوى سياسية مؤثرة وربما كانت سائدة وتمتلك مقومات خليط من المجتمع والسلطة معا. ولذلك كان حجم الاختلاف والتهافت في المجتمع الإسلامي كبيرا جدا وصل إلى حد لا يمكننا معه أن نطلق على هذه المكونات كافة لفظ (المدارس الفكرية) .. واتفق معك في تسميتها بـ(الانتماءات المذهبية). لأن المدارس الفكرية تنشأ على اختلاف في اجتهاد قائم على معايير وقيم ومعارف ومصادر ثابتة مجمع عليها عند أهل الاختصاص. وتأسيسا على ذلك يمكننا أن نخرّج هذه الفرق أو(المدارس) الفكرية عن الأصول التي يقوم عليها مجتمع الإسلام السليم لأنها تعد إفرازا لأحوال مضطربة اختلقت بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد انقطاع عهد التشريع . ويستبعد العقل الراجح الراهن أن يعدها أصولا قابلة لتحمل صور الإسلام السليم على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي فضلا عن العلمي والاقتصادي.
في عصرنا الحديث هناك مبادرات كثيرة تعتقد: أن أفضل صور الحل لجمع هذا الشتات الفرقي يكمن في تفعيل مساعي التقريب على (المنهج التوفيقي) . ولعلي أرى: أن هذا المنهج غير مناسب للتبني في عصرنا الراهن ، وأنا على يقين بأن المنهج التوفيقي – إذا ما قدر له النجاح – فإنه بلا شك سيخلص إلى صناعة ديانة جديدة ، هذا إذا سلمنا جدلا بإمكانية وصول مؤتمرات التقريب إلى نتائج مرسومة . وأجد: أن الواقع يحدثنا عما هو نقض أو خلاف التقريب تماما. فإلى أين وصلت خطب وبيانات مؤتمرات التقريب التي لم تصمد أمام الرقصات الهتسيرية لظلال الصراع المذهبي وانعكاساته في عالم السياسة .
المنهج التوفيقي في عمومه لا يصلح لمعالجة قضايا عالم الأديان والثقافات مطلقا..فلم يوفق الكندي ولا الفارابي ولا ابن رشد ولا ابن سينا ولا ملا صدرا في هذا المنهج ، فهم بين مساوي للفلاسفة والأنبياء ، وبين مؤول للنص حتى ينسجم ومراد الفلسفة والتصوف، وبين مساوي للدين والفلسفة فجعل الأول دينا للعامة والآخر دينا للخاصة .. دلني على صورة علمية دينية ايجابية واحد لهذا المنهج استطاعت أن تصنع مجدا في عالم المسلمين . وأحيلك – على سبيل المثال - إلى منهج التوفيق بين الفلسفة والدين الذي أبدع فيه ابن سينا وفر منه الشيخ الغزالي واتهم به بلا دليل الشيخ ميثم البحراني والسيد جمال الدين الأفغاني ، فقد انتهى هذا المنهج إلى حشر مفهوم وحدة الوجود في مبحث التوحيد. وهناك من أخذه الغلو على هذا المنهج فوفق بين الفلسفة والتصوف فحشر مفهوم وحدة الوجود والموجود في منظومتنا الفكرية وتمرد على التعددية بين واجب الوجود (الخالق) والموجود(المخلوق) فكان منتهاه على منتهى أبي جهل في التوفيق بين الآلهة والتجارة. وهناك من وفق بين القومية والدين فصنع جاهلية جديدة أثبتت فشلها في عالم اليوم ولازال يجتهد بلا نصب في إعادة صوغ مفاهيمه بعالم واسع من المؤلفات ودور النشر. ولو وفقت بين مذهبي التشيع والتسنن سأتهمك بصناعة دين جديد قائم على إلغاء حقائق تاريخية وقيم مميزة يستحيل اجتماعهما عقلا أو شرعا !.
ولعل أفضل الحلول جدوى وفائدة تكمن في تبني مفهوم (البحث عن الحقيقة) للوصول إلى الصورة المثلى لمجتمع النبي (صلى الله عليه وأله وسلم) حتى نقتدي به، وذلك عبر إعمال الآليتين العلميتين (البحث التاريخي) و(الحوار الموضوعي) وبتجرد من أي منهج توفيقي وعصبية جهلاء . ولا أخفي حقيقة يدركها المعنيون بهذا الأمر بشكل مقارب للتساوي مع عامة المثقفين والمتعلمين: بأن مفهوم (البحث عن الحقيقة) مفهوم حضاري يستغرق معناه الكامل ويتطلب أمرين مهمين أساسيين :الشجاعة في البحث والحوار العلمي للوصول إلى هذه الحقيقة ، وتفهم انعكاس التطور العلمي والتكنولوجي على هذه الصور الشجاعة من البحث والحوار .
فحتى نهاية العقد الماضي كان عالم الثقافة يرى: أن فرص التخفي خلف واقع الجهل الاجتماعي والثقافي لتعزيز المسارات الفكرية والثقافية الأحادية الخاصة قد ولت إلى غير رجعة . والى جانب ذلك تبلورت في مجتمعات اليوم قوى ضغط ثقافي خطير أصبحت الحقيقة الفكرية وامتدادها وأصولها التاريخية غاية مرادها. وكلما امتدت هذه المجتمعات بقواها في عرض الزمن وتلمست مجالات تطوره العلمي والثقافي ؛ كلما اقتربت قاب قوسين أو أدنى من مفاهيم (الحقيقة) أو بعض نتائجها. فسيادة دين الله تعالى واقعة تحت إرادة تكوينية وليس لك ولي إرادة إلا الخضوع عندها وتقبلها ، فلا تبهرنا صور التقريب الزاهية ولا صور الإرهاب القرفة ولا حتى صور الإبادة الجماعية التي يخطط لها دوليا .
* ثمة نقاش طويل حول خلفيات حركة الإصلاح الديني في مراحل الإسلام الحديث والمعاصر، ويتعدّى النقاش ليتناول مسبّباتها وحدودها وشعاراتها وحقيقة منطلقاتها الداخلية وبداياتها التاريخية. كيف تموضع تاريخياً حركات الإصلاح الديني، وما هو مدى موضوعيّة التأريخ التقليدي لأدوار الإصلاح والتي تبدأ بلحظة محمد عبده والأفغاني عادةً؟
إن الولوج الصحيح في علاج ملف ظاهرة حركات الإصلاح أو التعاطي معه لا يتأتى من خلال تلمس صوره الموضوعية المجردة وتأويلها، وبالتحديد: مقاصده وأهدافه فحسب. ولو تصفحت تأريخ حركات الإصلاح الديني – على سبيل المثال- ستجد أمامك مبحثا سياسيا أو اجتماعيا ضخما ورتيبا. وتكمن العلة في ذلك خلف القراءة وفق قواعد منهج علمي وافد مسترسل في معالجة لحظة تاريخية صنعتها حركات الإصلاح الديني في أوروبا ، كالحركة البروتستانتية التي قادها (مارتن لوثر) في ألمانيا ، ومن بعده (كالفن) في وسويسرا ، ومن قبلهما (جان ويكلف) في بريطانيا ، وغيرهم . وقد ساهمت هذه الحركات إلى حد كبير في نجاح فكرة فصل السلطة الدينية عن السياسية وتمييز شأن الملك عن بقية الخلائق . وكان مآل هذه الفكرة ومميزاتها إلى الإخفاق والفشل في مراحل لاحقة بعد أن تعالت الصيحات وتنادت إلى الانقلاب على الملك في شكل علماني مفتت للسلطة والملك معا وموزع لهما على قوى أخرى أكثر توازنا منهما. ولكن لن تجد إلا القليل من المنصفين ممن دعا إلى البحث في الجذور والأصول التي عمّدها (بولس) المشتغل بدور رئاسة الجند المتعقبين للمسيحيين وأشدهم ضراوة ضد المسيح وأتباعه ، ومن ثم انقلابه إلى المسيحية في قصة دراماتيكية جرّت المسيحية إلى منهج توفيقي جمع بينها وعقائد الرومان في التثليث ، وأبقى الملك على صفته في صفقة ترضية مقابل تحول المجتمع إلى المسيحية المهجنة!.
في عالمنا الإسلامي جهل الكثير أهم حركة إصلاحية انبرت في جهود كبرى لمحاكاة الأوضاع الذاتية كمدخل للتعاطي مع الجوانب الموضوعية ومن ثم معالجتها . فتميزت بينها مرحلة ابن عقيل وابن الجنيد والسيد المرتضى والشيخ المفيد والشيخ الطوسي إلى مرحلة ابن إدريس الحلي . وفي هذه المراحل المهمة طغى مشروع إصلاحي ديني أساس ومهم ربع مصادر التشريع فأضاف إليهما الإجماع والعقل . وبذلك نمت فكرة الاجتهاد وترعرعت في صور مصيرية في غاية الأهمية . ولم يكن يُعمل في ذلك أي منهج توفيقي أبدا لأن هذا المنهج كان وسيلة من وسائل العجز والضعف والوهن في وقت انقطع فيه عهد التشريع. فكان لهذا التحول الكبير اثر على الصعيد الذاتي ، وكان من نتائجه الموضوعية تطور المؤسسة التعليمية الدينية ونموها في مقابل التقهقر عن مبدأ الاجتهاد ومن ثم غلقه على المذاهب الأربعة عند السواد الأعظم من المسلمين.
ومن هنا كان السيد جمال الدين الأفغاني نموذجا كبيرا لعالم دين صنعته هذه المؤسسة التعليمية الدينية الجديدة في النجف الأشرف إلى جانب السيد محمد حسن الشيرازي الذي قاد انتفاضة (التنباك) ضد الإنجليز في إيران من معقله بسامراء وشاركه في هذه المهمة السيد الأفغاني بمراسلاته من البصرة شارحا فيها ظروف إيران وتطور أحداثها قبل وأثناء تلك الانتفاضة . وقد تعرض كلا الزعيمين إلى سخط المحافظين التقليدين المتبقين على أطراف المؤسسة التعليمية الدينية وشُجب تدخلهما في عالم السياسة .
وقد خرق السيد محمد حسن الشيرازي العرف الحوزوي فأبقى على الحوزة في النجف ونقل المرجعية إلى سامراء ليقيم فيها مدينة علمية جديدة تحفظ لضريحي الإمامين (عليهما السلام) مكانتهما ، وليؤسس لنظام مرجعي جديد يرفع من مستوى التمثيل المرجعي في الأمة إلى مستويات أرفع مما هو متداول ، فكان يرسل المجتهدين برسائلهم العملية إلى المناطق المستهدفة عوضا عن إرسال وكلاء بمستويات (المقدمات) أو(السطوح). واستمر في ذلك حتى مرحلة انتفاضة(التنباك) ومقتله.
وغادر الأفغاني حوزة النجف من قبل مضطرا حينما كان تلميذا للشيخ الأنصاري بسبب المكائد التي حيكت ضده من قبل نظرائه من علماء الدين بسبب ما كان يؤمن من فكر إصلاحي يرى أهمية سيادته في حركة المجتمع للخروج من مأزق الجهل وظلامه عوضا عن جمود المؤسسة التعليمية على متونها وانعزالها عن المجتمع بلا حراك منقذ، حتى استقر به المقام في القاهرة حيث أقام أول نهضة إسلامية إصلاحية .
أتصور أن حركة الأفغاني الإصلاحية كانت آخر حركة إصلاحية رفدت عالمنا الإسلامي بعوامل النهضة على الصعيدين الذاتي والموضوعي ولازالت حاضرة إلى يومنا هذا بين المذاهب الإسلامية المختلفة تؤتي أكلها برغم الهجوم الشنيع الذي رصدت له أموال طائلة منذ كان الأفغاني في القاهرة ، وهناك من وصف الأفغاني في تلك الهجمة بـ(كلب العجم) وفصله عن تلامذته وأغدق الأموال على بعضهم مقابل التحول إلى مذهب ديني سلفي مغاير وصف بـ(المذهب الإصلاحي) أيضا لم يوفق إلى الانتشار ، وهناك من حاول تناول نهضته الإصلاحية في المحافل الثقافية والعلمية بصور طائفية مشوهة ، وهناك من حاول جر هذه النهضة إلى معقله المذهبي ليؤكد من خلال بحوثه على أن الأفغاني ينتمي إلى مذهب غير التشيع، واستدل في ذلك بنمط عمامته وشكلها!
* أنتج التداول التجديدي في إيران مقولات ومصطلحات رفدتْ خطاب الإصلاح الديني المعاصر، ولكنها لم تسلم من التخطئة والرفض من جانب رجالات الدين والشخصيات المرجعيّة. كيف تقيّمون حركة إنتاج المقولات والمصطلحات في الخطاب الإصلاحي الشيعي، وهل تعتقدون أنها وصلت إلى مرحلة النضج والتأسيس النظري المحكم؟ لنأخذ مثالاً على ذلك: الحداثة الدينية، علم الكلام الجديد، فلسفة الفقه...
بعد نهضة الأفغاني اتسع الأفق الثقافي وهبت رياح النهضة لمعالجة الواقع في مصر ، فانتشرت المطبوعات والمؤلفات في النهضة بأشكالها المختلفة والمتضاربة أيضا ، فاجتازت الحدود واقتحمت المعاقل الثقافية والعلمية ووصلت إلى دول عديدة كان من بينها العراق ، فأخذ عنها كل من جميل صدقي الزهاوي على منهج الماديين فخلع عمامته ودعا إلى العلمانية المجردة عن الدين وآمن بنظريات داروين - و هبة الدين الشهرستاني الذي اتخذ له حلقة دراسية في جامع الطوسي كان يدرس فيها بعض مبادئ العلوم الحديثة التي استمدها من المجلات والكتب المصرية ، وحاول أن يبحث للعلم عن أصول دينية من خلال مؤلفه(الهيئة والإسلام) فأظهر الدين وكأنه دينا علميا. فكلاهما اخطأ في منهجه الإصلاحي وأثار به شيئا من الضجة حتى اعتبره المتزمتون والمتعصبون متفرنجا . والى جانب هذين المثالين في العراق برزت الكثير من المقولات والمصطلحات العلمية والثقافية ولكنها لم تصمد كثيرا.
وفي إيران قبل الثورة وبعدها أيضا اتخذت المقولات والمصطلحات الجديدة ثلاثة أبعاد واقعية أو حاجات رئيسية: (السياسة) : لتلبية حاجات الدولة الناشئة من خلال الحوزة أو الجامعات في بلد قليل الخبرة ومحاط بعالم يتوجس خيفة على مصالحه ، و(العرفان): باعتباره اتجاها علميا يتخطى تعقيدات الفلسفة اللفظية ويحل الغامض في مجال التوحيد وعلاقته بالعلم! . و(العلمية): التي كانت منهجها فلسفيا ناهض مخرجات العرفان القائم على الوجدان في تفسير الظواهر الدينية والبشرية والكونية . فأثارت هذه الأبعاد الثلاثة مستقبل الدولة بقيادة الحوزة فضلا عن مستقبل علاقاتها الثقافية مع الجامعات . ونشأت أفكار بمناهج فلسفية جديدة عرضت فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد مثالين وتبنت دعوة حديثة لمراجعة أصول كل علم حوزوي ووسائله ووسائطه ومدى فائدته ، ولم تستثن من ذلك فكرة الاجتهاد وهوية المجتهد والمجتمع العلمي المحيط به. فهذه موجات بمصطلحات ومقولات لها جدلها ونزاعها ولكنها لن تصمد كثيرا ، وسنشهد عودة أصولية إلى التراث الديني التقليدي مشابهة لمنهج المحدثين (الإخبارية) برفقة مراجعة نقدية وجدولة صارمة لعلوم الحوزات قد يكون ضحيتها علما الفلسفة والعرفان وآثارهما، خصوصا وان هذين العلمين تسببا في خروج الفقه وأصوله وعلوم الحديث والرجال والتاريخ على المتعارف عليه علميا في الحوزات عامة، وراجت بسببهما مقولات مخالفة أو مغايرة لحدود الاجتهاد في أبواب دينية مهمة ، كالحج والزواج والإرث والقضاء ، والضرائب وآلات اللهو ، فضلا عن إخضاعها العلوم الدينية للعلوم الإنسانية والطبيعية والتداخل معها.
نحن بحاجة إلى تنقية علوم الحوزات الدينية من آثار العلوم الوافدة قبل الشروع في عقد صفقة مع فكرة مشروع إصلاحي أو نتبنى مشروعا إصلاحيا حديثا. نحن بحاجة إلى الَنفَس العلمي للشيخ الطوسي وابن إدريس الحلي لنتمكن من مجاوزة ما يصطلح عليه بـ(التقليدية) بسلام ، لا أن نتبنى شطحات لا أساس علمي لها.
* يندلع اليوم حوار ساخن، وأحياناً بصحبة تعقيدات اجتماعيّة حادة، بين مجموعات التجديد والإصلاح الطالعة والكيانات المرجعيّة المصنّفة باعتبارها محافِظة وتقليدية. انطلاقاً من تجربتكم الخاصة، ما هي الاقتراحات التي تقدّمونها لتأمين العلاقات الاجتماعية من آثار الخلاف الفكري في هذا الشأن وغيره، وكيف تنظرون إلى الرؤية التي طرحها الشيخ حيدر حب الله في افتتاحيتي العدد الثالث والرابع من مجلة "نصوص معاصرة" والتي دعا فيها إلى عقد مؤتمر للاعتدال الشيعي ومنْ أسماهم بالوسطيين الشيعة؟
أصبحنا فوعينا عالما يصعب فيه تمييز المصطلحات أو ضبط المعاني في أوعية ألفاظها . فمن هم المجددون اليوم ؟ هل هم الداعون إلى فلسفة جديدة للدين ومتونه وعلاقاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؟! أم هم المغلبون للعلمية والعقلية ، والإنسانية والطبيعية ، على نصوص مصادر التشريع وخلفياتها التاريخية؟! وكيف نميز بين المحافظين والتقليديين في سياق معايير ثابتة؟!. فهناك من المصلحين المجددين من يدعو إلى رجعة جادة لمناهج تقليدية محافظة يرى فيها سلامة الدين والدنيا ، ورفع يد العبث في النص بمناهج علمية حديثة أو طارئة أو وافدة . وهناك من المجددين (الحداثيين) من يدعونا إلى إتباع منهج الشك عند مراجعة الأصول الدينية والتراث العلمي الديني والحوادث التاريخية وان تطلب ذلك نفي ضرورة من ضرورات الدين. وهناك من دعانا إلى تلك المراجعة عبر تقديم أحاسيسنا ووجدانا وتأخير عقولنا وعقائدنا أو نبذهما إن تطلب الأمر ذلك . وهناك من أخضع هذه الضرورات إلى مصالح سياسية تحت مسمى الاجتهاد . وهناك من ضعفت وسيلته فخلط بين التقليدية والمحافظة والتجديد والحداثة ولم يعد يميز بين الإصلاح المشروع ومشروعية الانقلاب. كل ذلك عقد من حساسية مبدأ الاجتهاد والإصلاح معا، وأحال عوامل النزاع الفكري إلى أشكال (تصفوية) أو (اقصائية) تمكن رعاتها من الاختفاء وراءها تحت مسميات أقل وطأة ، كالخلاف السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الشخصي الخاص.
وهنا ، لا يمكن بأي حال من الأحوال تأمين منظومة العلاقات الاجتماعية من آثار هذا النزاع الفكري ، لأننا هنا نلمس متناقضات ترجع إلى الأصول العقائدية وليس إلى الإجتهادات الفقهية أو الثقافية أو درجة التعاطي معها ومستوى الوعي فيها فحسب . فكل منها يميل بنفسه إلى ما يعتقد فيه مشروعا إصلاحيا سواء كان رجعيا أو تقدميا (بمعناهما اللغوي) . ولا ننسى هنا ، أن عناصر العلاقات الاجتماعية المعنية تشكل عمقا استراتيجيا يقصده مبلغو صور الإصلاح الديني لتدعيم قواعدهم وجذور حراكهم ، وهي جزء أساس وميدان وهدف لمعركة الإصلاح في نفس الوقت. فلابد وان يصدر عنها ما يعكر صفو العلاقات الاجتماعية .
وهنا أتذكر واقعة لخطيب منبر في منطقتنا النعيم ركز فيها موضوع خطابه على مفهوم الحوار وأهميته وفنونه وعناصره ، وكان الحاضرون من المثقفين يهزون برؤوسهم إعجابا بمركبات الموضوع وعناصره. وحين شارف وقت خطاب الشيخ على الانتهاء عرج على مصاديق ذلك الحوار ، فكانت الفاجعة في اختياره لحادثة لقاء الإمام الحسين (عليه السلام) بعمر بن سعد في يوم كربلاء كنموذج ومصداق واضح للحوار!. نحن بحاجة إلى الارتفاع بالمستوى الثقافي الديني المتعلق بالاستقلالية والتبيّن العقلي ، والحذر من قبول كل جديد يصدر هنا وهناك على عجالة ، وعرضه على مصادر التشريع والثقاة من ذوي الاختصاص ، ومعالجته معالجة أولية قبل أن نشرك في نزاع يترك أثاره السلبية على علاقاتنا الاجتماعية . وفيما يتعلق بثقافة حركة الإصلاح عموما على وجه الخصوص أتصور بأن أية عملية قبول لابد وان يسبقها بحث ثقافي حر في مصير حركات الإصلاح الديني في تاريخنا الإسلامي خاصة ، وفي العالم بما فيها حركات الإصلاح الديني في أوروبا إلى منتهاها. فلم نعد اليوم وحدنا من يطرق أبواب حوزاتنا وجامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية والتعليمية والاجتماعية.
* الحديث حول الإصلاح الديني في البحرين يبدو غامضاً وربما في موضع الشك. دعوات التجديد تارة تواجَه من جانب الرموز الدينية بالتخطئة والتشكيك، وتارة يُضعّف أصحابها ويُحاطون بالحصار المعنوي. هل ثمة مصداقية لمقولة الإصلاح الديني في البحرين؟ وهل بات الواقع الديني، أو المؤسسة الدينية والمجتمع الديني فيها محجوزاً عن أي محاولة للخروج من الأنساق الصارمة التي تفرضها غلبة تيار ديني معين أو كارزمية محددة؟ ما مصير الخطاب الديني التجديدي في البحرين وما هي أبرز علاماته.؟
سؤالك هذا أحال ذهني إلى واقعة مثيرة حدثت في الهند على عهد نهضة السيد الأفغاني أوجب فيها مثقفو الهند تبني منهج التوفيق بين اتجاه الحداثة والاتجاه الديني الجامد ، وآمنوا بعدمية التعارض بين الدين والفكر الوافد من الغرب ، وأسسوا على هذا الطريق منهجا تعليميا محرفا دُرس في جوامعهم وجامعاتهم . وكان السيد الأفغاني من المناهضين لهذا اللون من التوفيق الفكري الخاضع لزعامة السيد احمد خان والمقام على أسس تقييم الأوضاع المزرية وشدة وطأة الفقر والجهل والقلق . وقبيل وفود الأفغاني على الهند كان علماء المؤسسة التعليمية الدينية في الهند قد دخلوا في ستر الحيرة وفي صراع مرير مع المثقف (الحداثي) الجديد السيد احمد خان بدون أن تكون لهم مهارة وقدرة على غلبته ، فهم دون وعي البديل العلمي الحضاري المناسب ولم يسجل لهم تراثا علميا أو ثقافيا من قبل غير صور تقليدية جامدة ، فصمدوا على تقليديتهم وألبوا الشارع الهندي المسلم كعادتهم وأصدروا فتاوى حرمت كل خروج على الحال التعليمية والثقافية التقليدية وكل نظم المدارس الحديثة . وعند وصول الأفغاني إلى الهند للبحث عن العلاج وإطفاء نار الفتنة ؛ وجد طرفي الصراع ، مثقفي احمد خان وعلماء الدين الهنود ، وقد راهنوا في ثقة مطلقة على أن سيدهم الأفغاني سيتوافق بلا ريب مع فكر أحمد خان ويؤيد مواقفه وسيجمع بين الأطراف ، لأن كلا الرجلين من مريدي الإصلاح والتجديد ، فكانت مراهنتهم هذه تعبيرا عن مدى التباين والاضطراب في المسار الثقافي السائد في الهند . لكن الأفغاني شن حربا لا هوادة فيها ضد فكر أحمد خان وأنصاره من خلال الندوات العامة بدون أن يمس أحوالهم الشخصية مطلقا، وعرفهم بـ "الدهريين" ، وألف فيهم رسالته "الرد على الدهريين" واتهمهم بالإلحاد ، لأن أحمد خان أوجب اعتماد ما يخلي سبيل العقل ويطلقه في مداولة الدين وأوجد البديل المنحرف ، فتطلب ذلك من الأفغاني شحذ الهمة لإيجاد البديل الإسلامي الحضاري على المستوى الفكري والعملي وتنقية السلوك العام من هول التطرف ونفَس الحجز والعزل والإقصاء ، من هنا شكل سفر الأفغاني إلى الهند في ذلك الوقت فرصة ذهبية أشاعت الكثير من الارتياح عند مثقفي الهند وعلمائهم وأنقذتهم من الاضطراب الكبير وإعادتهم إلى النص الديني في إطار وعي وفهم وإدراك حيوي عصري.
في مثل هذا الدور المميز لمصلح حضاري قدير ، لم يعول فيه على الصورة التقليدية النمطية لعالم الدين ، ولم يكن للشعار السياسي من دور في تعبئة الهنود في الحركة الثقافية الإصلاحية بالرغم من توثب النفوس المشحونة للعمل ضد بريطانيا والعثمانيين. واستطاع الأفغاني لجم ما كان يعتمل صدور الهنود من غل ضد بني وطنهم فكان جامعا مانعا لا لغو فيه ولا نصب .
أين هذا المثال الرائع من أوضاع بلادنا؟ . وهل يمكننا إن نميز حركة إصلاحية دينية في بلادنا، وما المقصود من وراء هذه الحركة ؟ هل هو الدين أم المؤسسة التعليمية الدينية أم المجتمع الديني وواقعة؟ وهل أن هذه الحركة دينية أم غير ذلك؟. ليس ثمة حركة إصلاحية بمعناها الاصطلاحي في جميع جوانب الوضع الديني السائد في بلادنا. بل هناك خضوع عند مرجعيات فقهية أُخذ ببعض فقهها لا بمنهجها الحديث في الجانب المؤسسي أو الاجتماعي أو التعليمي، وازعم أن مرجعياتنا لا تمثل شيئا مما جادت به دوائر الإصلاح في قم المقدسة على هيئة المنهج العقلي و الوجداني الكشفي أو في النجف الأشرف على هيئة المنهج التكاملي للشيخ محمد رضا المظفر ، ولا تمثل صورهما التقليدية المحافظة - على جميع الصعد العلمية والثقافية. وربما كان ذلك رحمة نازلة بنا لا نقمة ، ومن حيث لا ندري ! .. وليس هناك انعكاس للإصلاح في الدوائر العلمية والثقافية الخارجية على مسيرة بلادنا العلمية والثقافية والاجتماعية المضطربة ، وكل ما ميزناه بأوهامنا وأدركته عقولنا: أن هناك اقتباسا قشريا لتوكيل مرجعي لا هدف إصلاحي فيه سوى محاولة لتركيب تيار حاشد معين حديث العهد بالسياسة على سكة ثقافية تقليدية لا ميل فيها للتجديد. وربما كان مرجع هذا الميل عن الإصلاح إلى الانشغال بالسياسة ومتطلبات موقف الإطفاء والطوارئ في مقابل منافسات ومناكفات مرشحة للسيادة . . ولكني على يقين بحصول تدني في كفاءة مرجعياتنا الدينية بعد أن كانت مرشحة للعب دور إصلاحي في نظامنا الاجتماعي قبل كل شيء .. فهل يمكنك أن تميز الآن تراثا علميا أو ثقافيا خلفته أو ستخلفه هذه المرجعيات؟! وما هي وسائل الاتصال (غير التسييس) وكيف نتعرف على مظاهر النسق الصاعد والنازل في مناولة الخطاب عموما؟ هذه تساؤلات تزيد المتمعن في خلفياتها التاريخية ومجريات واقعها شكوكا عريضة قد توقعه في قيد الاتهام بالتخلف والجهل وعدم الاختصاص والخبرة بلا وجه حق! وربما يشغل بالصغائر المتوثبة للدفاع عن شعار المعية!
نعم ، هناك رواح إلى صور سياسية مدعومة بأحوال تقليدية متعلقة بهيبة المرجعية ومكانتها العلمية والثقافية والروحية .. كان هناك فراغ سياسي مرجعي متزامن مع نمو تيار ديني اجتماعي عام مضطرب الهوية، فتنادى البعض من رموز البلاد إلى كسب تمثيل مرجعي يمكّنها من (الإستقواء) و(الإحاطة) بناصية هذا التيار بعد أخفاق كل أشكال الاعتراض السياسي في تحقيق التغيير المنشود منذ السبعينات.. وبالتزامن مع مشروع هذا الإعداد المرجعي الجديد اشتعلت البلاد في انتفاضة غير متوقعة دعت إلى تحول دستوري جاد لكن مرجعيتها لم تجد لعبتها السياسية فاقترفت أخفاقا جديدا افرغ كل تيارها من محتواه المعارض فمال به الشتات بدون وعي إلى الذوبان في منقذ مرجعي تقليدي أبدى امتعاضه لسير مرجعية الانتفاضة وشكك في منهجها وناكف القائمين عليه وصرح مرارا باعتداله على هيئة دينية تقليدية قديمة قد ترجع التيار إلى مزيج من صور عهد الشيخ العصفور ومن بعده عهد الشيخين الستري وسليمان المدني رحمهم الله .
|